تاريخ وأحداث

المماليك و الدولة المملوكية بحث شامل عنهم

المماليك

المماليك و الدولة المملوكية بحث شامل عنهم

هي دولة المماليك أو الدولة المملوكية أو سلطنة المماليك وهي واحدة من الدول الإسلامية التي قامت في مصر خِلال أواخر العصر العبَّاسي الثالث، وامتدَّت حُدُودها لاحقًا لِتشمل الشَّام والحجاز.

دام مُلكُها مُنذُ سُقُوط الدولة الأيوبيَّة سنة 648 هـ المُوافقة لِسنة 1250 م ، حتَّى بلغت الدولة العُثمانيَّة ذُروة قُوَّتها وضمَّ السُلطان سليم الأوَّل الديار الشَّاميَّة والمصريَّة إلى دولته بعد هزيمة المماليك في معركة الريدانيَّة سنة 923 هـ المُوافقة لِسنة 1517 م .

يُقسم المُؤرخون الدولة المملوكيَّة إلى فرعين أو دولتين هُما: 

  • دولة المماليك البحرية
  • دولة المماليك البرجية

حكم المماليك البحرية من سنة 648 هـ المُوافقة لِسنة 1250 م إلى سنة 784 هـ المُوافقة لِسنة 1382 م ، وكان أكثرهُم من التُرك والمغول .

وحكم المماليك البرجية من سنة 784 هـ المُوافقة لِسنة 1382 م إلى سنة 923 هـ المُوافقة لِسنة 1517 م ، وكانوا من الشركس .

والمماليك أُصُولهم رقيقٌ مُحاربين، استقدمهم الخُلفاء العبَّاسيين الأوائل من تركستان والقوقاز وغيرها وجعلوهم حُرَّاسًا لهم وقادةً لِجُيُوش المُسلمين، وقد ازداد نُفُوذ المماليك بِمُرور الزمن حتَّى أصبحوا يُهيمنون على الخِلافة وعلى مركز صناعة القرار، مُستفيدين من ضِعف الخُلفاء وتراجُع نُفوذهم.

وحذا السلاطين والأُمراء المُسلمين حُذو الخِلافة في بغداد، فكان لِكُلٍ منهم جماعةً من المماليك الأشدَّاء والكفوئين عسكريًّا، ومن هؤلاء السلاطين الأيُّوبيين الذين حكموا مصر والشَّام تحت الرَّاية العبَّاسيَّة.

ولمَّا مات آخر سلاطين بني أيُّوب، وهو الملكُ الصالح نجم الدين أيوب ، سنة 647 هـ المُوافقة لِسنة 1249 م ، كتمت زوجته شجرة الدُّر نبأ موته إلى أن حضر ابنه توران شاه من الجزيرة الفُراتيَّة إلى القاهرة.

وحاول توران شاه أن يُقدِّم مماليكه الذين اصطحبهم معه من الجزيرة، فعيَّنهم في مناصب الدولة، فما كان من المماليك القُدماء في مصر إلَّا أن ائتمروا به وقتلوه، ثُمَّ نصَّبوا شجر الدُّر سُلطانة عليهم في سنة 1250 مـ، وهي أوَّل امرأة وُلِّيت شُؤون المُسلمين.

كيف ظهر المماليك

كيف ظهر المماليك

ظهر المماليك بِمظهر مُنقذي العالم الإسلامي من الضياع والزوال بعد سُقُوط بغداد عاصمة الدولة العبَّاسيَّة والخِلافة الإسلاميَّة في يد المغول بِقيادة هولاكو خان، ومقتل آخر خُلفاء بني العبَّاس أبو أحمد عبد الله المُستعصم بِالله.

فقد سار المغول لِغزو الشَام وهدَّدوا مصر بِمصيرٍ مُشابه لِمصير بغداد كي لا تقوم لِلإسلام قائمة بعد ذلك، فأرسل سُلطانُ المماليك سيفُ الدين قُطُز جيشًا عرمرميًّا إلى فلسطين لِصدِّ التقدُّم المغولي وحماية قلب الديار الإسلاميَّة، فهزم المُسلمون المغول في معركة عين جالوت بِشمال فلسطين سنة 1260 مـ، وردُّوهم على أعقابهم.

أضف إلى ذلك، ورث المماليك عن الأيُّوبيين تصميمهم على مُحاربة الصليبيين وإجلائهم عن المشرق، لِذلك ما كادوا يفرغون من مُحاربة المغول حتَّى انصرفوا إلى مُحاربة الصليبيين.

كان الملكُ الظَّاهر بيبرس أوَّل من تابع مسيرة الجهاد ضدَّ الصليبيين، فهاجمهم بعد انتصاره على المغول، فصارت مُدنهم وقلاعهم تسقط واحدة بعد الأُخرى في يد المُسلمين، فقد استعاد بيبرس الكرك وقيسارية وصفد ويافا وجُبيل وعرقة ما بين سنتيّ 1263 و1266 مـ، وفي سنة 1268 مـ استعاد المُسلمون أنطاكية وزالت إمارتها الإفرنجيَّة من الوُجود.

وجاء السُلطان سيفُ الدين قلاوون يُكمل عمل سلفه بيبرس، فاسترجع قلعة المرقب في سنة 1281 مـ، وطرابُلس الشَّام والبترون في سنة 1289 مـ.

وتُوفي السُلطان قلاوون في سنة 1290 مـ وهو يُهيِّء حملة لاسترجاع عكَّا، فقام بهذه المُهمَّة بعده ابنه الملك الأشرف صلاحُ الدين خليل واستولى على عكَّا سنة 1291 مـ.

وقد أثار سُقُوطها، وهي المرفأ الرئيسي لِلصليبيين، القلق والذُعر الشديدين في نُفُوسهم، فجلوا عن المُدن الأُخرى الباقية في أيديهم، مثل صُور وصيدا وبيروت، وركبوا البحر عائدين إلى بلادهم، لِتنتهي بِذلك الحُرُوب الصليبيَّة بعد أن استمرَّت مائة وأربعًا وتسعين سنة.

أعاد المماليك إحياء الخِلافة العبَّاسيَّة في مصر بعد سُقُوط بغداد، لكنها كانت خِلافة صوريَّة هدف السلاطين المماليك إلى جعلها سندًا لِسلطنتهم ودعمًا روحيًّا لها يجعلها مهيبة الجانب.

يُعدُّ عهد المماليك بداية دور الانحطاط في تاريخ الحضارة الإسلاميَّة، ولكن ليس معنى ذلك أنَّ هذا العهد كان مُجدبًا تمامًا، إذ شهد عدَّة مُنجزات علميَّة وفكريَّة، وإنما بدأت الحضارة الإسلاميَّة في تلك الفترة تتراجع شيئًا فشيئًا. ففي حقل العلم كانت القاهرة ودمشق وحماة من أهم مراكز طب العُيُون في العالم، وقد أخرجت عددًا من الأطباء الأفذاذ الذين كانوا حُجَّة ومرجعًا في هذا العلم.

أمَّا في الأدب والتاريخ والدين فقد ظهر عددٌ من أعظم الباحثين وأغزر المُؤلفين المُسلمين، مثل ابن خلِّكان صاحب كتاب «وفيَّات الأعيان» في السِّير، وأبي الفداء صاحب كتاب «تقويم البُلدان» في الجُغرافيا، والسُّيوطي وابن خلدون والمقريزي، وابن كثير صاحب كتاب « البداية والنهاية »، وهم من أشهر المُؤرخين المُسلمين.

وقد اشتهر بعضُ سلاطين المماليك بِتشجيع العلم وتكريم العُلماء وبِإنفاق المال بِسخاء على تأسيس المدارس وإنشاء المكتبات، ومن تلك الصُرُوح العلميَّة :

  • المدرسة الناصريَّة
  • امدرسة قايتباي في القاهرة
  • المدرسة والمكتبة الظاهريَّة في دمشق
  • المدرسة القرطائيَّة في طرابُلس الشَّام

أيضًا أصبح الجامع الأزهر في العهد المملوكي جامعةً كُبرى تُدرِّس بها مذاهب أهل السُنَّة والجماعة الأربعة إلى جانب العُلُوم الأُخرى.

ساءت الحالة الاقتصاديَّة في الدولة المملوكيَّة خِلال أواخر العهد البُرجي بِسبب حالة القلق وعدم الاستقرار الناجمة عن الفتن الداخليَّة والانقلابات، وعن الحُرُوب الكثيرة التي شنَّها المماليك ضدَّ المغول والصليبيين وغيرهم، وبسبب توقُّف حركة التجارة مع أوربَّا بِسبب مشاعر الخوف والكراهيَّة وعدم الثقة التي خلَّفتها الحُروب الصليبيَّة بين الأوروپيين والمُسلمين، وكذلك بِسبب انتشار المجاعة والأوبئة وخُصُوصًا وباء الطاعون الذي فتك في سنة 1348–1349 م بِأكثر من مليون شخص، وأخيرًا بِسبب روح الطمع والأنانيَّة التي سيطرت على عددٍ كبيرٍ من سلاطين المماليك وجعلتهم يُوجهون سياسة الدولة الاقتصاديَّة وفقًا لِمصالحهم الشخصيَّة.

فكان ذلك من العوامل المُساعدة التي ساهمت بِتسريع سُقُوط الدولة في يد العُثمانيين، وتطلُّع الشعب في الشَّام ومصر إلى هؤلاء كمُنقذين.

تسمية دولة المماليك

تسمية دولة المماليك

تسمية الدَّولة المملوكيَّة أو السلطنة المملوكيَّة تسمية تأريخيَّة حديثة نسبيّاً ابتكرها المُؤرخون المُعاصرون، ولم تكن معروفةً في عصر المماليك، وإنما عُرفت هذه الدولة بِتسمياتٍ مُختلفةٍ في زمنها.

سمَّت المراجع العربيَّة المُعاصرة لِعهد المماليك البحريَّة هذه الدولة باسم «دولة الأتراك» أو «دولة التُرك» أو «الدولة التُركيَّة»، وفي عهد المماليك البُرجيَّة سُميت الدولة باسم «دولة الجراكسة» أو «الدولة التُركيَّة الجركسيَّة»، على اعتبار أنَّ المماليك الشراكسة (الجراكسة) كانوا يتحدثون بِالتُركيَّة لأنهم تربّوا مُنذ استقدامهم لمصر في كنف المماليك التُرك.

من التسميات الأُخرى التي اعتمدها المُؤرخون المُسلمون قديماً أيضاً، وإن يك نادراً: «الدولة البحريَّة» و«الدولة البُرجيَّة»، في كُلِّ عهدٍ على حدة، وشاعت هذه التسميات في العصر الحالي لِلتمييز بين العهدين المملوكيين.

عُرفت هذه الدولة كذلك باسم «الدولة المغوليَّة»، وذلك لِفترةٍ قصيرةٍ فقط من عُمرها، خِلال سلطنة العادل كتبغا لكونه مغولياً.

أيضاً، عُرفت الدولة طيلة عهد السُلالة القلاوونيَّة (678 – 784هـ \ 1279 – 1382م) باسم «دولة بني قلاوون» أو «دولة قلاوون»، كما عُرفت قبل ذلك في عهد الظاهر بيبرس وابنيه السعيد ناصر الدين مُحمَّد والعادل بدر الدين سُلامش باسم «الدولة الظاهريَّة».

أُصول المماليك

أُصول المماليك

المملوك، جمعه مماليك، هو العبد الذي سُبي ولم يُملك أبواه، والعبدُ القن هو الذي مُلك هو وأبواه.

والمملوك عبدٌ يُباع ويُشترى.

ولم تلبث التسمية أن اتخذت مدلولًا اصطلاحيًّا خاصًّا في التاريخ الإسلامي، إذ اقتصرت، مُنذُ عهد الخليفة العبَّاسي أبو العبَّاس عبدُ الله المأمون (198 – 218هـ \ 813 – 833م)، ثُمَّ أبو إسحٰق مُحمَّد المُعتصم بِالله (218 – 227هـ \ 833 – 842 م) على فئة من الرقيق الأبيض، كان الخُلفاء وكبار القادة والوُلاة في دولة الخِلافة العبَّاسيَّة، يشترونهم من أسواق النخاسة البيضاء لاستخدامهم كفرقٍ عسكريَّةٍ خاصَّة، بِهدف الاعتماد عليهم في تدعيم نُفوذهم.

وأضحى المملوك، مع مُرُور الوقت، الأداة العسكريَّة الوحيدة في بعض الدُول الإسلاميَّة.

وكان مصدرهم، آنذاك، بلاد ما وراء النهر.

واشتهرت مُدن سمرقند وفرغانة وأشروسنة، والشَّاش وخوارزم، بِأنها المصادر الرئيسيَّة لِتصدير الرقيق الأبيض ذوي الأُصُول التُركيَّة، وتمَّ ذلك بِإحدى الطُرق الثلاث: الشراء أو الأسر في الحُرُوب أو الهدايا التي كان يُؤديها وُلاة أقاليم بلاد ما وراء النهر على شكل رقيق إلى الخليفة.

ويبدو أنَّ الخليفة المُعتصم هو أوَّل خليفة اعتمد، بشكلٍ أساسيٍّ، على العُنصر التُركي، نظرًا لِمقدرتهم القتاليَّة المُميزة، حتَّى أضحى الحرس التُركي يِمثِّلُ دعامةً من دعائم الخِلافة أيَّام حُكمه، فاقتناهم مُنذُ أن كان أميرًا.

فكان يُرسلُ سنويًّا من يشتري له منهم، حتَّى اجتمع لهُ في أيَّام المأمون زهاء ثلاثة آلاف.

ثُمَّ تولَّى الخِلافة في ظل ظُروفٍ من الصراع العنيف بين العرب من ناحية والفُرس من ناحيةٍ أُخرى بِالإضافة إلى اختلالٍ في التوازنات بين العناصر التي تكوَّنت منها دولة الخِلافة العبَّاسيَّة.

فلم يثق المُعتصم بِالفُرس نظرًا لِسُوء العلاقة بينهم وبين بني العبَّاس مُنذُ انتقال المأمون من مرُّو إلى بغداد واستحالة التوفيق بين مصالح الطرفين، ولم يثق بِالعرب أيضًا نظرًا لِكثرة تقلُّبهم واضطرابهم وقيامهم ضدَّ الخُلفاء، بِالإضافة إلى أنَّ هؤلاء فقدوا كثيرًا من مُقوِّمات قُوَّتهم العسكريَّة والسياسيَّة في ذلك الوقت.

حملت هذه المُعطيات، الخليفة المُعتصم على أن يُوكِّل أمر سلامته الشخصيَّة إلى فرقة من العُنصُر التُركي، فاستكثر من شراء التُرك بِهدف الحد من النُفُوذين العربي والفارسي، حتَّى بلغت عدَّتهم ثمانية آلاف مملوك، وقيل ثمانية عشر ألفًا.

وخصَّهم بِالنُفُوذ، وقلَّدهم قيادة الجُيُوش، ومكَّنهم في الأرض، وجعل لهم مركزًا مُتفوقًا في مجال السياسة.

وسُرعان ما نمت قُوَّتهم، فأخذوا يتدخَّلون في شُؤون الخِلافة، حتَّى أمست دولة الخِلافة العبَّاسيَّة في أيديهم، يفعلون ما يُريدون، يعزلون خليفة ويُولُّون آخر، حتَّى أنَّ بعض الخُلفاء قُتلوا نتيجة مُؤامراتهم.

وأضحى العُنصر التُركي رُكنًا هامًّا في المُجتمع الإسلامي مُنذُ العصر العبَّاسي الثاني (232 – 334 هـ \ 847 – 946م)، فقامت الدُويلات المُستقلَّة ذات الأُصُول التُركيَّة والفارسيَّة في كنف دولة الخِلافة العبَّاسيَّة بعد أن دبَّ فيها الضُعف، وغدا التُرك وسيلة الخُلفاء لِلقضاء على هذه الحركات الاستقلاليَّة، خاصَّةً عُمَّال ووُلاة الأطراف الذين استقلُّوا بِولاياتهم.

المماليك في مصر

يرجعُ استخدام المماليك في جيش ولاية مصر إلى العهد الطولوني، عندما عيَّن الخليفة العبَّاسي أبو العبَّاس أحمد المُعتمد على الله أحمد بن طولون، التُركيّ الأصل، واليًا على الديار المصريَّة في سنة 263هـ المُوافقة لِسنة 877م، فطمع هذا بالاستقلال بها بعد أن أضحت جميع أعمالها الإداريَّة والقضائيَّة والعسكريَّة والماليَّة بِيده.

وحتَّى يُحقق أحمد بن طولون رغبته بِالاستقلال في حُكم مصر رأى أن يدعم سُلطته بِجيشٍ مملوكيٍّ من التُرك من بني جنسه بِالإضافة إلى العُنصر الديلمي، وقد بلغ تعداد هذا الجيش ما يزيد عن أربعةٍ وعشرين ألف غُلامٍ تُركيٍّ.

ومُنذُ ذلك الوقت، أضحى جُندُ مصر ووُلاتها من المماليك التُرك، ولمَّا توسَّعت حُدود الدولة الطولونيَّة لِتشمل الشَّام، أضحى حالُ جُند الشَّام كحال جُند مصر.

وقد نهجت الدولة الإخشيديَّة، التي خلفت الدولة الطولونيَّة في حُكم مصر، نهج هذه الدولة الأخيرة في الاعتماد على المماليك.

وقد بلغ تعداد مماليك مُحمَّد بن طُغج الإخشيد، مُؤسس الدولة الإخشيديَّة، نحو ثمانية آلاف مملوكٍ من التُرك والديلم، وقيل أنَّهُ كان ينام بِحراسة ألف مملوك.

ولمَّا استولى الفاطميُّون على مصر في سنة 358هـ المُوافقة لِسنة 969م، اعتمد خُلفائهم الأوائل، مُنذُ أيَّام أبي تميم معدّ المُعز لِدين الله على عدَّة عناصر تُركيَّة وزنجيَّة وبربريَّة وصقلبيَّة.

واستخدم الخليفة الفاطمي أبو منصور نزار العزيز بِالله التُرك في الوظائف العامَّة والقياديَّة في الدولة، وفضَّلهم على غيرهم من العرقيَّات الأُخرى، فولَّى مملوكه «منجوتكين» التُركي قيادة الجيش، كما ولَّاه الشَّام.

وكان نُفُوذُ المماليك التُرك يتزايد أو يتناقص وفق توجُّه كُل خليفةٍ فاطميٍّ على حدى، ففي عهد أبو عليّ المنصور الحاكم بِأمر الله تراجع نُفوذهم لِحساب الزُنج، ثُمَّ نشطوا مرَّة أُخرى في عهد الخليفة أبو الحسن عليّ الظاهر لِإعزاز دين الله الذي جعل قيادة الجُيُوش في يد المملوك التُركيّ الأصل منصور أنوشتكين.

وقد ولَّاه الظاهر دمشق في سنة 419هـ المُوافقة لِسنة 1028م.

واهتمَّ الفاطميُّون بِتربية صغار مماليكهم وفق نظامٍ خاص، وهم أوَّل من وضع نظامًا منهجيًّا في تربية المماليك في مصر.

وفي سنة 567هـ المُوافقة لِسنة 1171م، سقطت الدولة الفاطميَّة في مصر وقامت الدولة الأيُّوبيَّة على أنقاضها، لِتفتح صفحة جديدة في تاريخ الشرق الأدنى والمماليك معًا.

وكان الأيُّوبيين – الأكراد أصلًا – قد تربُّوا ونمت سُلالتهم في أحضان الدولة السُلجُوقيَّة التُركيَّة ومماليكها، فنقلوا عنها الكثير من عاداتها وأنظمتها التُركيَّة المشرقيَّة.

وكان الأيُّوبيين يُربُّون مماليكهم على أساس النظام الإسلامي المملوكي – الساماني الذي وضعهُ الوزير السُلجُوقي نظام المُلك وفصَّلهُ في كتابه «سياسة نامه»، ثُمَّ يتم إدخالهم في خدمة القُصُور السُلطانيَّة والدوائر الحُكُوميَّة.

ولمَّا توجَّه القائد أسدُ الدين شيركوه إلى مصر لِنُصرة آخر الخُلفاء الفاطميين أبو مُحمَّد عبدُ الله العاضد لِدين الله ولِلحيلولة دون احتلال البلاد من قِبل الصليبيين، كان غالبيَّة جيشه يتألَّف من المماليك التُرك القفجاق الذين سُمُّوا بـ «المماليك الأسديَّة» نسبةً له، أي أسدُ الدين.

بعد وفاة أسد الدين، وقفت المماليك الأسديَّة إلى جانب ابن أخيه صلاحُ الدين وناصروه حتَّى تولَّى الوزارة في مصر، وأنشأ هذا الأخير لِنفسه جيشًا خاصًا عماده المماليك الأسديَّة والأحرار الأكراد، بِالإضافة إلى المماليك التُرك الذين اشتراهم لِنفسه وسمَّاهم «الصلاحيَّة» أو «الناصريَّة»، كما كان لِأخيه العادل أبي بكر طائفةٌ من المماليك سمَّاهم «العادليَّة».

اشتركت فئات المماليك الأسديَّة والصلاحيَّة والعادليَّة في مُختلف المعارك التي خاضها صلاحُ الدين ضدَّ الأُمراء المُسلمين بِهدف تحقيق الوحدة الإسلاميَّة وضدَّ الصليبيين بِهدف طردهم من ديار الإسلام.

والواقع أنَّ المماليك بلغوا في هذه المرحلة مبلغًا من القُوَّة، ممَّا دفع صلاح الدين إلى استشارتهم والنُزُول عند إرادتهم في كثيرٍ من الأحيان.

وازداد عددهم في مصر والشَّام بعد وفاة صلاح الدين في سنة 589هـ المُوافقة لِسنة 1193م بِشكلٍ مُلفت، وبرزوا على أثر اشتداد التنافس والصراع بين ورثته من أبنائه وإخوته وأبناء إخوته الذين اقتسموا فيما بينهم الإرث الأيُّوبي.

ومع تنامي قُوَّة المماليك نتيجة كثرة اعتماد الأُمراء الأيُّوبيين عليهم، أخذوا يتدخَّلون في خلع هؤلاء الأُمراء والسلاطين وفي تنصيبهم.

انتقال الحُكم من الأيوبيين إلى المماليك

بعد وفاة الملك الكامل ناصرُ الدين مُحمَّد الأيُّوبي سنة 635هـ المُوافقة لِسنة 1238م عارض مماليكه ما جرى من تنصيب ابنه الأصغر سيفُ الدين أبو بكر، فتحالفوا مع المماليك الأشرفيَّة بِزعامة عز الدين أيبك، وتآمروا على خلع أبي بكر سنة 637هـ المُوافقة لِسنة 1240م، وهزموا من ناصرهُ من الكُرد.

بعد ذلك فرض المماليك الكامليَّة (مماليك الملك الكامل ناصر الدين) وكانوا الأقوى على الساحة السياسيَّة ، رغبتهم على الأشرفيَّة بِتنصيب نجم الدين أيُّوب بن مُحمَّد، فاستُدعي الأخير من حصن كيفا في الجزيرة الفُراتيَّة لِتولِّي السُلطة في مصر التي دخلها سنة 638هـ المُوافقة لِسنة 1240م، وجلس على العرش وتلقَّب بِالملك الصَّالح.

كانت قضيَّة تنصيب الملك الصَّالح سابقةً في تاريخ مصر والإسلام، إذ قام المماليك لِأوَّل مرَّة بِدورٍ سياسيٍّ ضاغط  فأضحوا الأداة لِلسلاطين الأيُّوبيين لِلاحتفاظ بِسُلطانهم وتفُّوقهم، ممَّا أدَّى إلى تضخُّم نُفُوذهم السياسي، وازدادوا شُعُوراً بِأهميَّتهم.

أدرك الصَّالح أيُّوب أهميَّة المماليك لِلاستمرار في الحُكم ما دفعهُ إلى الإكثار من شرائهم إلى درجةٍ لم يبلغْها غيره من الأمراء الأيوبيين حتَّى أضحى مُعظم جيشه منهم، واعتنى بِتربيتهم تربيةً خاصّةً ثُمَّ جعلهم بطانته وحرسه الخاص.

استغلَّ المماليك الصالحيَّة سطوتهم في مُضايقة الناس والعبث بِمُمتلكاتهم وأرزاقهم، حتَّى ضجَّ الشعب من عبثهم واعتداءاتهم، فرأى الصَّالح أيُّوب أن يُبعدهم عن العاصمة، واختار جزيرة الروضة في النيل لِتكون مقراً له، فانتقل إليها مع حاشيته ومماليكه الذين بنى لهم قلعة خاصَّة أسكنهم بها، فعُرفُوا مُنذُ ذلك الحين بِـ «المماليك البحريَّة الصالحيَّة».

تعرَّضت مصر أواخرَ أيَّامِ الصَّالح أيُّوب لغزوٍ صليبيٍّ كبير بِقيادة لويس التاسع ملك فرنسا [ما اصطلح عليه بالحملة الصليبيةِ السابعة]، ففي فجر السبت 22 صفر 647هـ المُوافق فيه 5 حُزيران (يونيو) 1249م نزل الصليبيُّون برَّ مدينة دُمياط، واحتلُّوا المدينة بِسُهولة بعد انسحاب حاميتها وهروب أهلها منها. وتُوفي في تلك الفترة الحرجة الصَّالح أيُّوب بعدما اشتدَّ عليه المرض، فأخفت زوجته شجر الدُّر موته خشية تضعضع الأوضاع، وأرسلت تدعو ابنه الوحيد توران شاه من حصن كيفا لِلقُدوم إلى مصر على عجلٍ لِيتولَّى الحُكم.

علم الصليبيُّون بِوفاة الصَّالح أيُّوب رُغم كُل الاحتياطات التي اتخذتها شجر الدُّر لِإخفاء الأمر، فاتخذوها فُرصةً لِتوجيه ضربةٍ قاضيةٍ لِلمُسلمين قبلما يفيقوا من هول الصدمة، فزحفوا من دُمياط نحو المنصورة.

أمسك المماليك بِزمام الأُمُور بِقيادة فارس الدين أقطاي الجمدار، الذي أصبح القائد العام لِلجيش (أتابك العسكر)، ووضع أحد أبرز قادتهم بيبرس البندقداري خطَّة عسكريَّةً مُحكمةً كفلت النصر على الصليبيين، وفي تلك الأثناء وصل توران شاه إلى مصر وتسلَّم مقاليد الأُمُور، وأعدَّ خطَّةً أُخرى ضمنت النصر النهائي على الصليبيين في قرية فارَسْكور، فهُزم هؤلاء هزيمةً كُبرى وفَنيَ جيشهم على يد المماليك، ووقع لُويس التاسع نفسهُ في الأسر، وقتل أخاه في المعركة.

على هذا الشكل انتهت الحملة الصليبيَّة على مصر بِفضل جُهُود المماليك.

اشتهر السُلطان الجديد توران شاه بِأنَّهُ شخصيَّة عابثة، واتَّصف بِسُوء الخلق والتصرُّف والجهل بِشُؤون الحُكم والسياسة، فبعد انتصاره على الصليبيين ازداد غُروره وتناسى ما أبلاه مماليك أبيه من صد الصليبيين، فلم يُقدِّر ثمن هذا النصر، كما لم يُقدِّر جُهودهم في الحفاظ على نظام الحُكم كي يُؤمِّنوا العرش له.

ويبدو أنَّ توران شاه فقد ثقته بهم بعد انتصاره على الصليبيين عندما شعر بِأنَّ لهُ من القُوَّة ما يكفي لِأن يملأ الوظائف الحُكُوميَّة بِمماليكه الذين اصطحبهم معه من الجزيرة الفُراتيَّة، ولمَّا احتجَّ عليه المماليك البحريَّة ردَّ عليهم بِالتهديد والوعيد، ثُمَّ أعرض عنهم، وأبعدهم عن المناصب الكُبرى، وجرَّدهم من مظاهر السُلطة وأخيراً أمر باعتقالهم.

عصر المماليك البحرية

عصر المماليك البحرية

أضحى المماليك، بعد مقتل توران شاه، أصحاب الحل والعقد في مصر.

وكان من الطبيعي أن يطمع كُل أميرٍ منهم في تبُّوء عرش السلطنة الشَّاغر، كما وُجد على الساحة السياسيَّة المُلُوك والأُمراء الأيُّوبيُّون خارج مصر، والرَّاجح أنهم استاءوا من إقدام المماليك على قتل أحد مُلوكهم واستئثارهم بِالسُلطة، ومن الطبيعي أن يرى كُلٌ منهم في نفسه الشرعيَّة لِأن يلي السلطنة بعد توران شاه.

وأخيرًا قرَّر المماليك حل المُشكلة الناجمة عن شًغُور العرش، فاختاروا شجر الدُّر لِتولِّي السلطنة.

ومن أبرز العوامل التي دفعتهم إلى اختيارها كان رجاحة عقلها واطلاعها على الأُمور الهامَّة في الدولة، حيثُ كانت تُشارك زوجها الراحل الصَّالح أيُّوب في إدارة أُمور السلطنة.

كانت شجرة الدر من أصلٍ أرمنيّ أو تُركيّ، اشتراها الصَّالح أيُّوب، وحظيت عنده، فأعتقها وتزوَّجها.

لِذلك هي من ناحية الأصل والنشأة أقرب إلى المماليك، واعتبرها المقريزي أولى سلاطين دولة المماليك البحريَّة.

بُويعت السُلطانة الجديدة في 2 صفر 648هـ المُوافق فيه 6 أيَّار (مايو) 1250م، وحلفت لها العساكر باعتبارها سُلطانة، كما عُهد المماليك إلى عز الدين أيبك، وهو أحد الأُمراء الصالحيَّة، بِأتابكيَّة العسكر، فكان لها بِمثابة الشريك.

الصراع مع الأيوبيين

بعد أن نجحت في تصفية الحملة الصليبيَّة السابعة، واستعادت دُمياط عملت شجرة الدُّر على تدعيم مركزها الداخلي، فأخذت تتقرَّب من الخاصَّة والعامَّة، وتعمل على إرضائهم بِشتَّى الوسائل، فخلعت على الأُمراء والعساكر وأرباب الدولة، وأنفقت عليهم الهبات والأموال، وأنعمت عليهم بِالرُّتب والمناصب العالية ومنحتهم الإقطاعات الواسعة، تقديرًا لِما أبدوه من ضُروب الشجاعة في طرد الصليبيين، كما خفَّفت الضرائب عن الرعيَّة لِتستميل قُلوبهم.

غير أنَّ كُل ذلك لم يُساهم في تدعيم مركزها الداخلي، إذ لم يتقبَّل الناس وُجود امرأة في السلطنة، إذ لم يعتد المُسلمون في تاريخهم أن يُسلِّموا زمام أُمورهم لِامرأة.

وحاولت شجر الدُّر التقرُّب من الخِلافة العبَّاسيَّة لِتدعيم مركزها وتُضيف الصفة الشرعيَّة على حُكمها، فكانت تحرص على التمسُّك بِلقب «المُستعصميَّة» إشارةً إلى صلتها بِالخليفة العبَّاسي أبو عبد المجيد عبدُ الله بن منصور المُستعصم بِالله، لكنَّ ذلك لم يُفيدها شيئًا، إذ قامت المُظاهرات في القاهرة.

وحدثت اضطرابات عديدة مُناهضة لِحُكمها، بعد أن اتهمها المُعارضون بِالتساهل مع الصليبيين، وحمَّلوها مسؤوليَّة إطلاق سراح الملك الفرنسي لويس التاسع الذي ما أن أُطلق سراحه وعاد إلى عكَّا حتَّى واصل نشاطه الصليبي ضدَّ المُسلمين في الشَّام.

ومال عُلماءُ الدين إلى هذه الحركة المُعارضة، حتَّى أنَّ شيخ الإسلام عزُّ الدين بن عبد السلام، وهو أكبر عُلماء المُسلمين في ذلك الوقت، كتب كتابًا حول ما قد يُصيب المُسلمين نتيجة توليتهم لِامرأة.

كان الأمراء الأيُّوبيُّون الشوام في مُقدِّمة المُعارضين لِلنظام الجديد، فلم يقبلوا حُلول المماليك مكانهم في حُكم مصر والشَّام، واعتبروا أنهم أصحاب الحق الشرعي في حُكم هذه البلاد باعتبارهم من سُلالة صلاح الدين، وأنَّ ما جرى يُعتبر خُروجًا لِلسلطنة في مصر على البيت الأيُّوبي، لِذلك رفضوا حلف اليمين لِلسُلطانة الجديدة، وشاركهم بعض الأُمراء المماليك الشوام في ذلك أيضًا.

فقد رفض المماليك القيمريَّة (نسبةً إلى بلدة قيمر بين الموصل وخلاط) في دمشق أن يحلفوا يمين الولاء والطاعة لِلسُلطانة الجديدة، وكتبوا إلى الملك الناصر يُوسُف الأيُّوبي صاحب حلب يستدعونه لِلقُدوم إليهم لِيُسلِّموا له دمشق.

وخرج الملك السعيد حسن بن العزيز عُثمان الأيُّوبي، صاحب قلعة الصُبّية، من الديار المصريَّة احتجاجًا، فهاجم غزَّة وأخذها واستقرَّ في القلعة المذكورة.

وثار الطواشي بدرُ الدين الصَّوابي الصالحي، نائب الصَّالح أيُّوب بِالكرك والشوبك، وسلَّم الحصنين إلى الملك المُغيث عُمر الأيُّوبي.

وانتهز الملك الناصر يُوسُف هذه الفُرصة واستجاب لِدعوة المماليك القيمريَّة، فزحف بِجُيُوشه نحو دمشق ودخلها دون قتال يوم السبت 8 ربيع الآخر 648هـ المُوافق فيه 10 تمُّوز (يوليو) 1250م، وخضعت باقي مُدن الشَّام لِمُلوكٍ من البيت الأيُّوبي.

وبِذلك خرجت الشَّام من قبضة شجر الدُّر، وانقسمت الجبهة الإسلاميَّة التي وحَّدها صلاح الدين وأخيه العادل أبو بكر مرَّة أُخرى، فأضحت مصر في يد المماليك والشَّام في يد الأيُّوبيين.

خشي المماليك على نظامهم الجديد من مُنافسة الأيُّوبيين، واضطربت أوضاعهم، فتنادوا إلى اجتماعٍ يُعقد في قلعة الجبل، حيثُ جدَّد الأُمراء والجُنُود الولاء والطَّاعة لِلسُلطانة شجر الدُّر والأتابك عز الدين أيبك، وشهدت القاهرة إجراءات قمعيَّة بِحق المُوالين لِلأيُّوبيين، حيثُ قُبض على كُل شخص عُرف بِمُوالاته لهم.

واتجه المماليك نحو بغداد لِإنقاذ حُكمهم المُهدَّد، وإضفاء الصفة الشرعيَّة على النظام الجديد.

فكتبوا إلى الخليفة العبَّاسي المُستعصم يطلبون منه تأييد سلطنة شجر الدُّر، لكن خاب أملهم عندما عاب عليهم الخليفة تنصيب امرأة في الحُكم، وقال قولته المشهورة: «إِن كَانَت الرِّجَالُ قَد عدُمَت عِندَكُم فِأَخبِرُونَا حَتَّى نُسيِّرَ إِلَيكُمُ رَجُلًا».

ولمَّا وصل جواب الخليفة إلى القاهرة، وجدت شجر الدُّر نفسها في موقفٍ حرج، بعد أن أحاطت بها مظاهر العداء في الدَّاخل والخارج.

واقتنع المماليك، من جهتهم، بِضرورة تغيير رأس السُلطة، فطلبوا من شجر الدُّر أن تتزوَّج بِالأمير عز الدين أيبك وتتنازل له عن العرش، فاستجابت لهم وخلعت نفسها من السلطنة.

بِتولِّي أيبك عرش السلطنة المملوكيَّة، تحرَّك المُلُوك والأُمراء الأيُّوبيُّون، بِزعامة الناصر يُوسُف صاحب دمشق وحلب، باتجاه مصر لاستعادتها من أيدي المماليك.

وعندما علم أيبك بِأنباء هذا الزحف، قرَّر مُواجهة هذا الخطر بِالطُرق السلميَّة أولًا.

وحتَّى يمتص نقمة الأيُّوبيين، اختار، بالاتفاق مع كبار أُمراء المماليك، صبيًّا صغيرًا في العاشرة من عمره من بني أيُّوب هو الأشرف موسى بن المسعود بن الكامل، وأقامه سُلطانًا لِيكون شريكًا له في الحُكم، لكنَّ المُلُوك الأيُّوبيين فطنوا لِتلك الحيلة، وأدركوا أنَّ الأشرف موسى لم يكن لهُ غير الاسم، في حين كانت الأُمُور كُلها بِيد أيبك، واستمرُّوا في زحفهم نحو مصر.

التقى الجيشان، المملوكي والأيُّوبي في 10 ذي القعدة 648هـ المُوافق فيه 2 شُباط (فبراير) 1251م عند قرية العبَّاسة بين مدينتيّ بلبيس والصالحيَّة، فاشتبكا في معركةٍ انتصر فيها الأيُّوبيين بدايةً، ثُمَّ انقلبت الآية بسبب تخلِّي بعض المماليك من جيش الناصر يُوسُف عن مواقعها وانضمامها إلى الجيش المملوكي بِدافع العصبيَّة.

فتراجع الأيُّوبيين إلى الشَّام في حين عاد المماليك ظافرين ومعهم الأسرى إلى القاهرة.

بعد هذه الموقعة بِشهر، أرسل أيبك جيشًا ناحية غزَّة فاستولى عليها، وقرَّر السيطرة على سائر الشَّام واستخلاصها من يد الأيُّوبيين.

وتسابق الطرفان، الأيوبيين والمماليك، لِاستمالة الصليبيين في مُواجهة الطرف الآخر، لولا أن أرسل الخليفة العبَّاسي المُستعصم إلى الناصر أيُّوب يأمره بِمُصالحة أيبك فورًا، وحثَّ الأخير على قُبُول أيَّة شُروط يطلبها الأوَّل ودفن هذا الخِلاف حيثُ هو، وذلك في سبيل مُواجهة الخطر القادم إلى المشرق، ألا وهو الخطر المغولي، الذي يستوجب توحيد العالم الإسلامي.

ويبدو أنَّ موجة الرُعب التي أثارها المغول أثناء زحفهم من آسيا الوُسطى باتجاه العالم الإسلامي، وأخبار وحشيَّتهم، جعلت الطرفان يستجيبان بِسُهُولةٍ لِدعوة الخليفة، فانتهى الصراع الأيُّوبي المملوكي عند هذا الحد.

سقوط بغداد

كان الاستيلاء على العراق من ضمن السياسة المغوليَّة العامَّة القاضية بِالتوسُّع في غرب آسيا والسيطرة على ما تبقَّى من العالم الإسلامي بعد سُقُوط خوارزم وفارس في عهد الخاقان الأعظم منكو خان.

عهد الخاقان سالف الذِكر إلى أخيه هولاكو القيام بِتنفيذ هذه المُهمَّة وفتح ديار الإسلام حتَّى أقاصي مصر بعد أن منحهُ إقليم فارس والولايات الغربيَّة، وحدَّد لهُ إطار العلاقة مع الخليفة العبَّاسي، بحيثُ إذا قدَّم فُرُوض الولاء والطَّاعة فلا يتعرَّض له، أمَّا إذا عصى، فعليه أن يتخلَّص منه حتَّى لا يُشكِّل وُجوده عقبة في طريق الزحف المغولي.

ومن جهته، وضع هولاكو خطَّة عسكريَّة تقضي، أولًا، بِالقضاء على طائفة الحشاشين الإسماعيليَّة، ثُمَّ غزو المناطق الغربيَّة وُصولًا إلى مصر، في مرحلةٍ ثانية.

وبعد أن حقَّق هدفه الأوَّل سار لِتحقيق هدفه الثاني، وبدأ بِغزو العراق.

ولمَّا رفض الخليفة العبَّاسي الخُضُوع لِلمغول، وردَّ على رسائل هولاكو ردًا قاسيًا تضمَّن تهديدات، سار الأخير بِجُيُوشه الجرَّارة نحو عاصمة الخِلافة وحاصرها من كُلِّ جانب بِحُلول يوم 12 مُحرَّم 656هـ المُوافق فيه 18 كانون الثاني (يناير) 1258م، ووصل هولاكو بنفسه لِيُشارك في الحصار يوم 13 مُحرَّم 656هـ المُوافق فيه 19 كانون الثاني (يناير) 1258م، لِيبلغ عدد القُوَّات المُحاصرة بغداد نحو 200,000 مُقاتل وفق تقدير ابن كثير.

ضيِّق المغول الحصار على بغداد ودكُّوها دكًا بِقذائف المجانيق ثُمَّ دخلوها عنوةً في يوم الأربعاء 9 صفر 656هـ المُوافق فيه 14 شُباط (فبراير) 1258م، واستباحوها وقتلوا كُلَّ نفسٍ صادفتهم ونهبوا وحرقوا كُل ما صادفوه، وكان الخليفة قد خرج منها وسلَّم نفسه لِلزعيم المغولي دون قيدٍ أو شرط بعد أن وعده هولاكو بِالأمان.

وقد انتهت هذه الأحداث بِقتل الخليفة المُستعصم وابنيه أبي العبَّاس أحمد وأبي الفضائل عبدُ الرحمٰن، وأسر ابنه الأصغر مُبارك وأخواته الثلاث فاطمة وخديجة ومريم، ثُمَّ استسلمت الحلَّة والكُوفة وواسط والموصل.

وبِسُقُوط بغداد ومقتل الخليفة المُستعصم انتهت دولة الخِلافة العبَّاسيَّة التي عمَّرت ما يزيد عن خمسة قُرون.

كان لِسُقوط بغداد دويٌّ هائلٌ وعميقٌ في مُختلف أنحاء العالم الإسلامي.

واهتزَّ الحُكَّام المُسلمون في المناطق المُجاورة لِهذا الحدث الجلل.

واعتبر المُسلمون في كُلِّ مكان، أنَّ سُقوط الخلافة العبَّاسيَّة صدمةٌ مُريعة، وتحديًا مُخيفًا، كان لهُ أسوأ الأثر في نُفوسهم.

فعلى الرُغم من أنَّ الخِلافة ظلَّت مُنذُ زمنٍ طويلٍ تفقدُ قدرًا كبيرًا من سُلطتها الماديَّة، فإنَّ مكانتها الأدبيَّة والروحيَّة لا زالت قويَّة، وتوجَّس الأيُّوبيين في الشَّام والمماليك في مصر خيفةً من الآتي.

كان السُلطان المملوكي عز الدين أيبك قد قُتل قبل سنة من سُقُوط بغداد، وتحديدًا يوم الثُلاثاء 24 ربيع الأوَّل 655هـ المُوافق فيه 10 نيسان (أبريل) 1257م، على يد بعض غلمانه نتيجة تحريض زوجته شجر الدُّر بعد ازدياد الوحشة بينهما وتدخُّلها في شُؤون الحُكم، ولم تلبث شجر الدُّر أن قُتلت هي الأخُرى أيضًا على يد جواري امرأة أيبك الأولى أُم نُور الدين عليّ.

على أثر مقتل أيبك ، بايع المماليك ابنه نُور الدين عليّ، وعُمره خمس عشرة سنة، ولقَّبوه بِالملك المنصور.

عاشت البلاد في تلك الفترة حالة قلقٍ واضطراب وعدم استقرار بِسبب عدم إلمام المنصور بِشُؤون الحُكم ولِتنافس الأُمراء على تبُّوء العرش، بِالإضافة إلى وُصُول خبر سُقُوط بغداد واستباحتها ومقتل الخليفة، ومسير المغول نحو الشَّام، فشاع الخوف والقلق بين الناس، وأصبح الوضع حرجًا يتطلَّب وُجود رجلٍ قويٍّ على رأس السلطنة.

وعلا في هذه الأوضاع المُضطربة نجم الأمير سيفُ الدين قُطُز، نائب السلطنة كأقوى أميرٍ مملوكيّ، فأخذ على عاتقه توحيد صُفُوف المماليك من مُشكلة الحُكم، وأقدم على عزل المنصور نور الدين عليّ في شهر ذي القعدة سنة 657هـ المُوافق فيه شهر تشرين الثاني (نوڤمبر) سنة 1259م بِمُساعدة الأعيان والأُمراء، وتربَّع على عرش السلطنة المملوكيَّة لِيتفرَّغ لِمُواجهة المغول.

كان من الطبيعي أن يتلو غزو المغول لِلعراق، مُهاجمة الشَّام.

وكان هولاكو قد أرسل، أثناء حصار بغداد، فرقة عسكريَّة استولت على إربل، ومن ثُمَّ أشرف المغول على البلاد الشَّاميَّة.

وقف أمير أنطاكية الصليبي بوهيموند السادس إلى جانب المغول رُغم تردُّد باقي الإمارات الصليبيَّة وتخوُّفها من الانضمام لِهؤلاء، وحالف الأرمن في قيليقية المغول وشجَّعوهم على القضاء على المُسلمين في الشَّام واشتركوا معهم في قتالهم على أمل استخلاص الأراضي المُقدسة منهم وبيت المقدس خُصوصًا.

أمَّا المُلُوك والأُمراء المُسلمون فكانوا يفتقدون الرَّابطة الاتحاديَّة، وعمل كُل أميرٍ بِاستقلالٍ عن الآخر.

لِذلك، ضرب الناصر يُوسُف الأيُّوبي الصُلح مع المماليك بِعرض الحائط، وعرض على هولاكو التعاون أملًا باسترجاع مصر لِلبيت الأيُّوبي.

وكان أن استجاب هولاكو لِتلك الدعوة، وقرَّر إرسال قُوَّة من عشرين ألف فارس إلى الشَّام، ولم يلبث المغول أن زحفوا من العراق على الشَّام، فانتقلوا في سُرعةٍ مُذهلةٍ من ديار بكر إلى آمُد يُريدون حلب.

ولم يُوفَّق المُسلمون في الدفاع عن حلب فدخلها المغول وقتلوا ونهبوا وسلبوا وفعلوا عادة فعلهم.

وهُنا أفاق النَّاصر يُوسُف لِحقيقة خطر المغول، فأرسل إلى قريبه المُغيث عُمر صاحب الكرك والمُظفَّر قُطُز صاحب مصر يطلب منهُما النجدة السريعة.

على أنَّهُ يبدو أنَّ كثيرًا من الأُمراء بالشَّام خافوا عاقبة مُقاومة المغول ونادوا بِأنَّهُ لا فائدة من تلك المُقاومة، فأخذ الأمير زينُ الدين الحافظي يُعظِّم من شأن هولاكو وأيَّد مبدأ الاستسلام له، ولكنَّ الأمير رُكن الدين بيبرس البندقداري – وكان قد أصبح من أُمراء المماليك البحريَّة بالشَّام – لم يُعجبه ذلك القول، فقام وسبَّهُ وضربه وقال له: «أَنْتُمُ سَبَبُ هَلَاكُ المُسْلِمِيْن!»

ولم يرضَ بيبرس ومن معهُ من البحريَّة عن مسلك الناصر يُوسُف وأُمراء الشَّام، فساروا إلى غزَّة، وأرسل بيبرس إلى السُلطان قُطُز يعرض عليه توحيد جُهود المُسلمين ضدَّ خطر المغول. وفي الحال استجاب قُطُز للدعوة.

فأرسل إلى بيبرس يطلب منهُ القُدوم، واستقبلهُ بِدار الوزارة وأقطعهُ قليوب وأعمالها.

سقطت مُدن الشَّام الواحدة تلو الأُخرى في يد المغول، فساروا من حلب إلى دمشق ثُمَّ بعلبك نُزولًا إلى فلسطين حتَّى بلغوا غزَّة.

وأرسل هولاكو إلى قُطُز خطاب تهديدٍ ووعيد يطلب منهُ التسليم ويقُولُ له: «يَعلَمُ المَلِكُ المُظَفَّرُ قُطُز وَسَائِرَ أُمَرَاءَ دَوْلَتِهِ وَأَهلَ مَملَكَتِهِ بِالدِّيَارِ المِصْرِيَّةِ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الأَعمَالِ، أَنَّا نَحنُ جُندَ الله فِي أَرضِهِ، خَلَقَنَا مِن سَخطِهِ وَسَلطِهِ عَلَى مَن حَلَّ بِهِ غَضَبِهِ فَاتَّعِظُوا بِغَيْرِكُمُ فَنَحْنُ لَا نَرْحَمُ مَن بَكَى وَلَا نَرُقُّ لِمَن شَكَى».

ولكنَّ قُطُز لم يجبن أمام ذلك التهديد، فقتل رُسُل المغول وعلَّق رُؤوسهم على باب زويلة، وقرَّر الخُرُوج لِلتصدِّي لِلمغول، وشجَّعهُ على ذلك الأنباء التي أفادت بِرحيل هولاكو شرقًا بعد أن علم بِوفاة الخاقان الأعظم منكو خان، وتركه القيادة بِيد نائبه كتبغا، وأنَّ الصليبيين نفضوا يدهم من التحالف مع المغول لِعدم ثقتهم فيهم، فرأى أنَّ الفُرصة أصبحت مُؤاتية لِلوُقوف بوجه هذا الخطر ودحره والانتصار عليه.

أعدَّ المُسلمون العدَّة لِمُواجهة المغول، وخرجوا بِقيادة قُطُز نحو فلسطين، فقابلوا جيش المغول في يوم 25 رمضان 658هـ المُوافق فيه 3 أيلول (سپتمبر) 1260م في سهل عين جالوت حيثُ دارت بين الطرفان معركةٌ حامية الوطيس أُفني فيها الجيش المغولي عن بُكرة أبيه، وقُتل قائده كتبغا.

ثُمَّ حرَّر المُسلمون باقي مُدن الشَّام من المغول، وأمر قُطُز بِإنزال القصاص بِالذين تعاونوا معهم، وكان في مُقدمتهم عددٌ من الأهالي المسيحيين في دمشق وغيرها، والأُمراء الأيُّوبيين، فيما عفى عن قسمٍ آخر منهم.

ثُمَّ رتَّب أوضاع المُدن المُستعادة، وأعلن وحدة الشَّام ومصر مُجددًا، قبل أن يقفل ويرجع إلى القاهرة، التي أصبحت مُنذ ذلك الحين قِبلة العُلماء والأُدباء النازحين من العراق والشَّام والبلاد التي دمَّرها المغول.

إحياء الخلافة العباسية

بعد زوال الخطر المغولي الذي أجبر المماليك جميعًا على الاتحاد، تجدَّدت النزاعات بين قُطُز ومماليكه المعزيَّة من جهة وبين المماليك البحريَّة بِقيادة الأمير بيبرس البندقداري من جهةٍ أُخرى.

وكان من نتيجة تلك النزاعات أن دفعت المماليك البحريَّة بيبرس إلى اغتيال قُطُز يوم السبت 15 ذي القعدة 658هـ المُوافق فيه 22 تشرين الأوَّل (أكتوبر) 1260م، بعد أن أظهر قُصر نظر في الحقل السياسي حين تجاهل مكانة بيبرس التي ارتفعت بعد معركة عين جالوت.

بعد مقتل قُطُز، بايع الأُمراء والجُند بيبرس سُلطانًا على مصر والشَّام، وحلفوا لهُ جميعًا أن لا يخونوا ولا يثبوا عليه.

ويبدو أنَّ بيبرس شعر مُنذُ أن تسلَّم الحُكم، أنَّهُ بِحاجةٍ إلى دعمٍ أدبيٍّ يُكسب حُكمه صفة شرعيَّة، بعد أن نظر إليه مُعاصروه على أنَّهُ اغتصب السلطنة من قُطُز، يُضاف إلى ذلك أنَّ كثيرًا من الناس استمرَّت تنظر إلى المماليك نظرة الريبة من زاوية أصلهم غير الحُر وانتزاعهم الحُكم من سادتهم الأيُّوبيين، ممَّا كان دافعًا لهم لِلبحث عن سندٍ شرعيٍّ يُبرِّرون بِواسطته حُكمهم.

والحقيقة أنَّ العالم الإسلامي شعر بِفراغٍ كبيرٍ في منصب القيادة الروحيّ بعد سُقُوط بغداد في أيدي المغول، ولم يكن بِالإمكان أن يخلف أحد أبناء البيت العبَّاسي الخليفة المُستعصم بعد مقتله، لأنَّ عاصمة الخِلافة أضحت قاعدةً لِلحُكم المغولي.

وقد حاول بعض الأُمراء المُسلمين إعادة إحياء الخِلافة العبَّاسيَّة، ومنهم النَّاصر يُوسُف الأيُّوبي وسيف الدين قُطُز، لكنهما لم ينجحا، فرأى بيبرس أن يكون هو هذا الحاكم المُسلم الطموح الذي يُعيد الحياة إلى هذه الخِلافة على أن يكون مقرَّها القاهرة، لِيجعل منها سندًا لِلسلطنة المملوكيَّة التي كانت بِحاجةٍ ماسَّة إلى دعمٍ روحيٍّ يجعلها مهيبة الجانب.

بِالرُغم من الانتصارات التي حققتها ضدَّ المغول، ولِيُحيط عرشه بِسياجٍ من الحماية الروحيَّة يقيه خطر الطامعين في مُلك مصر والشَّام، ويُبعد عنه كيد مُنافسيه من أُمراء المماليك في مصر الذين اعتادوا الوُصُول إلى الحُكم عن طريق تدبير المُؤامرات، وكي يظهر بِمظهر حامي الخِلافة الإسلاميَّة.

تذكر بعض الروايات أنَّ قُطُز كان قد بايع أمير عبَّاسي يُدعى أبا العبَّاس أحمد، كان قد هرب إلى دمشق هربًا من المغول، فأمر بِإرساله إلى مصر تمهيدًا لِإعادته إلى بغداد.

وتذكر بعض الروايات أنَّ المُظفَّر بايع فعلًا هذا الخليفة وهو في دمشق، غير أنَّ حادثة اغتياله حالت دون تنفيذ هذا المشروع.

استدعى بيبرس الأمير المذكور لِيحضر إلى القاهرة لكنَّهُ لم يفعل، ووصل في ذلك الوقت أميرٌ عبَّاسيٌّ آخر هو أبو القاسم أحمد، فارًا من وجه المغول، فاستدعاه بيبرس فورًا إلى القاهرة، واستقبلهُ استقبالًا حافلًا وبُويع بِالخلافة صباح يوم الإثنين 13 رجب 659هـ المُوافق فيه 15 حُزيران (يونيو) 1261م.

وكتب بيبرس إلى سائر السلاطين والأُمراء والنُوَّاب المُسلمين خارج مصر لكي يأخذوا البيعة لِلخليفة الجديد، وأمرهم بِالدُعاء له على المنابر قبله وأن تُنقش السكَّة باسميهما.

وقام الخليفة العبَّاسي بِدوره، فقلَّد بيبرس البلاد الإسلاميَّة وما ينضاف إليها، وما سيفتحهُ من بلادٍ في دار الحرب، وألبسهُ خُلعة السلطنة.

وبِذلك أضحى بيبرس سُلطانًا شرعيًّا، فأمن بذلك مُنافسة الأُمراء له.

ضم الحجاز

كان طبيعيًّا أن يكون الحجاز محط أنظار الظاهر بيبرس، مُدركًا في الوقت نفسه، أنَّ ضمُّه لِلبلاد المذكورة سيُقوِّي مكانته في العالم الإسلامي، ويُضفي على حُكمه مهابة بين المُسلمين، خاصَّةً بعد أن ضُمَّت الشَّام تحت جناح المماليك.

ورأى بيبرس ضرورة ضم بلاد الحجاز لِأسبابٍ سياسيَّةٍ واقتصاديَّةٍ ودينيَّةٍ.

فمن الناحية السياسيَّة، فقد اعتادت مصر، مُنذُ عهد الخِلافة الراشدة، أن تُرسل الغِلال والميرة إلى الحجاز كضريبةٍ يجب أن تُؤديها إلى تلك البلاد التي تضم الحرمين الشريفين، بِالإضافة إلى إرسال الكِسوة إلى الكعبة التي كانت تُصنع من أجمل وأنفس منسوجات الشرق، وقد اشتهرت بها مصر مُنذُ زمنٍ بعيد.

ومن الناحية الاقتصاديَّة، فإنَّ ضم المماليك لِبلاد الحجاز تسمح لهم بِالتحكُّم بِتجارة بحر القلزم (البحر الأحمر)، ومن ثُمَّ بِالتجارة العالميَّة.

إذ شاءت الظُرُوف أن يترافق قيام سلطنة المماليك البحريَّة، في مُنتصف القرن الثالث عشر الميلاديّ، مع ازدهار طريق البحر الأحمر وموانئ مصر، واضمحلال ما عداها من طُرق التجارة الرئيسيَّة الأُخرى بين الشرق والغرب.

ذلك أنَّ سيطرة المغول على البُلدان الشرقيَّة واتخاذ هولاكو بلاد فارس مركزًا لِدولته، قد عطَّل، بِفعل انعدام الأمن، مُرور القوافل التجاريَّة على طريق التجارة الشماليَّة بين الصين والأناضول، وموانئ بحر البنطس (البحر الأسود) والشَّام.

وكان ذلك في الوقت الذي تراجع فيه مجيء السُفُن القادمة من الشرق الأقصى إلى الخليج العربي، بِسبب ازدياد نشاط القراصنة من سُكَّان جُزُر البحرين، ومن ثُمَّ تحوَّلت السُفن التجاريَّة إلى ميناء عدن في اليمن.

غير أنَّ حُكَّام اليمن لم يُحافظوا على سلامة التُجَّار النازلين في عدن ولا على بضائعهم ممَّا دفع السُفن التجاريَّة إلى عدم التوقُّف في عدن والاستمرار في الإبحار عبر بحر القلزم (البحر الأحمر).

وهكذا ترتَّب على اضمحلال طُرق التجارة الشرقيَّة في ذلك الوقت انتعاش طريق البحر الأحمر – مصر، الأمر الذي أتاح لِلسلاطين المماليك بِشكلٍ عام، فُرصة ذهبيَّة لِلإفادة من القيام بِدور الوسيط بين تُجَّار الشرق وتُجَّار الغرب.

أمَّا من الناحية الدينيَّة، فإنَّ ضم الحجاز إلى السلطنة المملوكيَّة سيُضفي على حُكم بيبرس هالة من المهابة باعتباره مسؤولًا عن الحرمين الشريفين، كما سيدعم ذلك ركائز دولته، ويضعهُ في مصاف الخُلفاء العبَّاسيين، في الوقت الذي كان فيه بِأمس الحاجة إلى هذا الدعم.

ومهما يكن من أمر، فقد أخذ بيبرس على عاتقه تنفيذ سياسته الحجازيَّة.

فقام بِعدَّة إصلاحات بِالحرم النبوي، وأرسل الكِسوة إلى الكعبة.

كما أرسل الصدقات والزيت والشُمُوع والطيب والبُخُور مع كسوة لِقبر الرسول مُحمَّد صلى الله عليه وسلم .

وأخيرًا أدَّى فريضة الحج في سنة 667هـ المُوافقة لِسنة 1269م، وأمر بِجعل الخِطبة لِلخليفة العبَّاسي المُقيم بِالقاهرة، ثُمَّ لِلسُلطان المملوكي من بعده، كما ضُربت السكَّة باسمه.

وهكذا ضُمَّت الحجاز إلى الدولة المملوكيَّة، واستتبع ذلك ضم بلاد اليمن، التي كانت تحت حكم بني رسول، وأضحت هذه البلاد بِمُقتضى التقليد الذي منحهُ الخليفة العبَّاسي المُستنصر لِلظاهر بيبرس داخلة في نطاق الحُكم المملوكي.

وقد جاء في هذا التقليد: «..وَقَد قَلَّدَكَ الدِّيَار المِصرِيَّة والبِلَاد الشَّامِيَّة والدِيَار بِكرِيَّة والحِجَازِيَّة واليَمَنِيَّة والفُرَاتِيَّة وَمَا يَتَجَدَّد مِنَ الفُتُوحَاتِ غَورًا وَنَجدًا».

بداية المناوشات بن المماليك والصليبيين

بعد إحياء الخِلافة العبَّاسيَّة، وتوطيد أركان الدولة المملوكيَّة، وإنزال الهزيمة القاسية بِالمغول، اعتبر بيبرس أنَّ الوقت قد حان لاستعادة بلاد المُسلمين التي احتلَّها الصليبيين مُنذُ حوالي القرن من الزمن، ورأى أن يبدأ بِمُعاقبة القوى المسيحيَّة التي ساعدت المغول ووقفت بِجانبهم ضدَّ المُسلمين، وخصَّ منهم حيطوم ملك قيليقية الأرمنيَّة وبوهيموند السادس أمير أنطاكية.

فأرسل في سنة 659هـ المُوافقة لِسنة 1261م، جيشًا إلى حلب لِشن غارات واسعة النطاق على أملاك أنطاكية.

وتجدَّدت الغارات في السنة التالية، وهدَّد المُسلمون أنطاكية نفسها بِالسُقُوط لولا أنجدها جيشٌ مغولي أرمني مُشترك يقوده الملك حيطوم بِنفسه، فاضطرَّ الجيش الإسلامي إلى فك الحصار.

لم يسع بيبرس، نتيجة فشله في استعادة أنطاكية، وتهديده المُستمر من جانب مغول فارس، في الأوقات التي يُهاجم فيها الإمارات الصليبيَّة، إلَّا اللُجوء إلى الدبلوماسيَّة لِتحصين موقفه.

لِذلك، تحالف مع بركة خان بن جوشي، خان القبيلة الذهبيَّة، والإمبراطور البيزنطي ميخائيل الثامن پاليولوگ، والسُلطان السُلجوقي عز الدين كيكاوس بن كيخسرو، وأضحى باستطاعته القيام بِمشاريعه الكُبرى ضدَّ الصليبيين وهو آمن.

بدأت الحرب بين المُسلمين بِقيادة بيبرس، والصليبيين سنة 661هـ المُوافقة لِسنة 1263م، عندما هاجمت جُيُوش المُسلمين الناصرة، كما هاجم بيبرس بنفسه مدينة عكَّا ولكنَّهُ لم يُفلح في استردادها، على أنَّ الحرب الشاملة التي شنَّها بيبرس على الصليبيين لم تبدأ إلَّا في سنة 663هـ المُوافقة لِسنة 1265م، عندما استردَّ المُسلمون قيسارية ويافا وعثليث وأرسوف.

وفي نفس السنة تُوفي هولاكو وخلفه آباقا خان، ولم يكن باستطاعته التدخُّل في شؤون الشَّام لانشغاله بِمُحاربة أبناء عُمومته في القبيلة الذهبيَّة الذين أغاروا على بلاده الربيع التالي، فأضحى باستطاعة بيبرس أن يستأنف حملاته ضدَّ الصليبيين دون أن يخشى تدخلًا مغوليًّا.

وهكذا استرجع المُسلمين في السنة التالية مُدن وبلدات صفد وهونين وتبنين والرَّملة.

ولم يغفر بيبرس لِمملكة أرمينية الصُغرى في قيليقية أو لِإمارتيّ أنطاكية وطرابُلس تحالُفها مع المغول ضدَّ المُسلمين، فأخذ يُمهِّد سنة 665هـ المُوافقة لِسنة 1266م لِلقيام بِعملٍ حربيٍّ ضدَّ هذه القوى الصليبيَّة، وأرسل جيشًا تحت قيادة الأمير قلاوون استولى على بعض القلاع الواقعة شماليّ طرابُلس الشَّام لِتحقيق ذلك الغرض.

وفي صيف سنة 665هـ المُوفقة لِسنة 1266م، وجَّه بيبرس حملةً كُبرى ضدَّ أرمينية الصُغرى أثناء غياب ملكها حيطوم الأوَّل في زيارةٍ لِمغول فارس، ونجح المُسلمين في إنزال هزيمة كُبرى بِالأرمن قُرب دربساك.

وانتقموا منهم شرَّ انتقام، فدمَّروا مُدن قيليقية وبِخاصَّة أضنة وطرسوس والمصيصة، كما أشعلوا النار في العاصمة سيس، وقُتل أحد أبناء الملك حيطوم في الحرب في حين أُسر الابن الثاني، وبعد ذلك عاد المماليك إلى الشَّام مُحمَّلين بِالغنائم ومعهم آلاف الأسرى من الأرمن.

وأخيرًا توَّج بيبرس جهوده ضدَّ الصليبيين باسترجاع أنطاكية في شهر أيَّار (مايو) سنة 1268م.

وكانت خسارة الصليبيين بِسُقُوط أنطاكية ضخمة، لأنها كانت كُبرى إماراتهم بِالشَّام، وثاني إمارة أسسوها بعد الرُّها، لِذلك جاء سُقُوطها إيذانًا بانهيار البناء الصليبي بِالشَّام، بحيثُ لم يبقَ لِلصليبيين بعد ذلك من المُدن سوى عكَّا وطرابُلس.

ولم تقتصر حركة الجهاد التي قام بها بيبرس ضدَّ القوى الصليبيَّة في الشرق الأدنى على أرمينية الصُغرى والشَّام، وإنما امتدَّت إلى جزيرة قبرص، المحكومة من قِبل آل لوزنيان الإفرنج.

ولم يستطع الظاهر بيبرس أن يغفر لِملك قبرص هيوج الثالث تهديده لِسُفن المُسلمين في شرق حوض البحر المُتوسِّط، أو مُساعدته لِلصليبيين ضدَّ المُسلمين بِالشَّام، فأرسل حملةً بحريَّةً سنة 668هـ المُوافقة لِسنة 1270م لِغزو قبرص.

ولكنَّ هذه الحملة أُصيبت بِالفشل بِسبب ريحٍ عاصفة هبَّت على السُفن الإسلاميَّة قرب شاطئ قبرص فتحطَّم بعضها، وعاد البعض الآخر دون نتيجة.

وهكذا استمرَّ بيبرس يشُنَّ الحُروب العنيفة على الصليبيين دون هوادة ولا رحمة، فاسترجع في سنة 669هـ المُوافقة لِسنة 1271م بلدة صافيتا وحصن الأكراد وحصن عكَّا والقرين، وأخذ يستعد لِمُهاجمة طرابُلس ذاتها، لولا وُصُول الأمير إدوارد الإنكتاري إلى الشَّام ومعهُ بضع مئاتٍ من المُحاربين، مما جعل بيبرس يخشى أن يكون ذلك مُقدِّمة لِحملةٍ صليبيَّةٍ كبيرة.

وجديرٌ بِالذكر أنَّ حرص بيبرس على تقليم أظافر الصليبيين بِالشَام دفعه إلى القضاء على نُفُوذ الباطنيَّة الحشيشيَّة.

وكانت هذه الطائفة قد قامت بِدورٍ خطيرٍ في تاريخ الحُرُوب الصليبيَّة، وأسهمت بِقسطٍ وافرٍ في انحلال الشَّام في ذلك العصر.

ثُمَّ أنهم لم يكتفوا باغتيال كثير من زُعماء حركة الجهاد من المُسلمين، وإنما حالفوا الصليبيين ودفعوا لهم الأموال رمزًا لِلتبعيَّة، وانقلبوا عليهم في بعض الأحيان وفق ما قضته مصلحتهم.

لِذلك سعى بيبرس إلى القضاء على نُفُوذ الباطنيَّة في الشَّام قضاءً تامًّا، فعزل مُقدمهم نجم الدين الشعراني، واستولى على حُصونهم حصنًا بعد آخر حتَّى استولى عليها جميعًا وأراح البلاد من شرِّهم.

إنشاء طائفة المماليك الشراكسة

تعرَّض قلاوون، في أوائل عهده، إلى ثورتين: الأولى قام بها نائب السلطنة في دمشق الأمير سُنقُر الأشقر الذي امتنع عن مُبايعة قلاوون ودعا أهل دمشق إلى الخُروج عن طاعة الأخير، وأعلن نفسه سُلطانًا وتلقَّب بِلقب «الملك الكامل»، وطلب من نُوَّاب الولايات في الشَّام الاعتراف به.

لم يقف السُلطان قلاوون موقف المُتفرِّج من هذه الحركة، فقاتل الأمير سُنقُر حتَّى هزمه وأجبره على الاستسلام، فطلب الأمان والعفو، فمُنح ذلك، وعُفي عنه، وعاد إلى القاهرة مُعززًا.

أمَّا الثورة الثانية التي تعرَّض لها قلاوون فكانت مُؤامرةٍ حاكها بعض الأُمراء الظاهريَّة، إذ اتفقوا مع المغول على اغتياله، وأسرُّوا لِلصليبيين في عكَّا بما دبَّروا، ونصحوهم بِعدم عقد أيَّة مُعاهدة مع السُلطان لأنَّهُ سيُقتل في القريب العاجل.

لكنَّ هؤلاء رفضوا التعاون معهم وحذَّروا قلاوون منهم. ولمَّا علم السُلطان بِتفاصيل المُؤامرة استدرج الأُمراء المُتآمرين وكشف لهم علمه بِالأمر، وأمر بِإعدامهم، ثُمَّ قبض على الأُمراء الذين كان يشك في إخلاصهم له وسجنهم.

رُغم إخضاع الثورتين سالِفتا الذِكر، إلَّا أنَّ السُلطان قلاوون فقد بِسببهما ثقته بِالمماليك الظاهريَّة، واتجه إلى تأسيس طائفةٍ مملوكيَّةٍ خاصَّةٍ به تُساعده في توطيد حُكمه في الدَّاخل وتُسانده في سياسته الخارجيَّة، ويكون اعتماده عليها دون الطوائف المملوكيَّة الأُخرى.

فأنشأ في سنة 681هـ المُوافقة لِسنة 1282م طائفة المماليك الشراكسة، وهو عُنصرٌ جديد من أصلٍ قوقازي، يعيش في القسم الشمالي الغربي لِبلاد القوقاز وفي قسمٍ من الشاطئ الشرقي لِلبحر الأسود إلى أطراف بلاد الأبخاز جنوبًا.

تميَّز هذا العُنصُر بِميزتين: انخفاض ثمنه بِالمُقارنة مع غيره من فئات المماليك التُرك، ووفرة أعداده في الأسواق.

وظلَّ قلاوون يعمل على الإكثار من شراء هذا العُنصر حتَّى أضحى عددهم ثلاثة آلاف وسبعُمائة في أواخر أيَّامه، وأنزلهم في أبراج قلعة القاهرة، لِذلك عُرفوا بِالمماليك البُرجيَّة.

غير أنَّ لفظ «الشركس» أو «الجركس» لم يُطلق عليهم إلَّا بعد عدَّة سنوات، وقُدِّر لِهؤلاء أن يكون لهم شأنٌ كبير في تاريخ مصر وسائر بلاد الشرق الأدنى في القُرون اللاحقة.

تدهور دولة المماليك البحريَة وسقوطها

تُوفي الناصر مُحمَّد بن قلاوون سنة 741هـ المُوافق فيه سنة 1340م، والواقع أنَّ وفاته جاءت إيذانًا بانتهاء فترة الاستقرار والرخاء اللذين تمتعت بهما الدولة المملوكيَّة في عهده.

وإذا كان أبناء الناصر مُحمَّد وأحفاده قد تمكنوا من البقاء في الحُكم أربعين سنة بعد وفاة الناصر نفسه، فإنَّ ذلك لا يرجع إلى موهبةٍ خاصَّةٍ ظهرت في أحد أولئك السلاطين، وإنما كان مرجع ذلك هيبة بيت قلاوون نفسه في قُلُوب المُعاصرين، وهي الهيبة التي وضع أُسُسها المنصور قلاوون، وازدادت نُموًّا في عهد ولده السُلطان الناصر مُحمَّد.

وبِعبارةٍ أُخرى فإنَّ أبناء الناصر مُحمَّد وأحفاده عاشوا على السُمعة الطيِّبة والمكانة الراسخة والشُهرة الواسعة التي تركها الناصر مُحمَّد بِالذَّات في قُلُوب مُعاصريه، رُغم أنَّهُ كان من هؤلاء الأبناء والأحفاد من لا يستحق المُلك لِضُعفه أو سوء خُلُقه أو صغر سنِّه.

خِلال العشرين سنة الأولى التي أعقبت وفاة الناصر مُحمَّد (741 – 762هـ \ 1341 – 1361م) تولَّى منصب السلطنة ثمانيةٌ من أولاده، وفي العشرين سنة التالية (762 – 784هـ \ 1361 – 1382م) تولَّى المنصب أربعة من أحفاده.

وبعضُ هؤلاء الأبناء والأحفاد تولَّى منصب السلطنة وعُمره عامٌ واحد – مثل الكامل سيف الدين شعبان – كما أنَّ بعضهم لم يبقَ في الحُكم إلَّا شهرين وبضعة أيَّام، مثل الناصر شهاب الدين أحمد.

وشهدت هذه الفترة من حياة الدولة المملوكيَّة اضطرابات وعدم استقرار وفوضى، تركت أثرها واضحًا في جميع نواحي الحياة السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة.

وزاد من أحوال البلاد سوءًا في ذلك الدور انتشار وباءٍ خطيرٍ عُرف باسم «الوباء الأسود» سنة 749هـ المُوافق فيه سنة 1349م – أي في عهد السُلطان الناصر حسن بن مُحمَّد – فمات كثيرٌ من الناس، وتأثَّرت الحياة الاقتصاديَّة أسوأ أثر حتَّى كادت تتوقَّف تمامًا، وتوقفت الأحوال بِالقاهرة وسائر مصر.

ووقف خلف كُل سُلطان من أبناء الناصر مُحمَّد وأتباعه أميرٌ أو أكثر من كُبراء أُمراء المماليك، بحيثُ طغت شخصيَّة أولئك الأُمراء على السلاطين، واستغلُّوهم لِتحقيق مصالحهم الخاصَّة، فنجم عن ذلك ازدياد المُنازعات فيما بينهم، وتحكُّمهم واستبدادهم بِشُؤون الدولة والعِباد.

يُلاحظ أنَّ بعض الأُمراء سالفي الذكر كان من المماليك البُرجيَّة الشراكسة، ومن أبرزهم سيفُ الدين برقوق، الأمر الذي يدُل على ازدياد نُفُوذ تلك الطائفة، ممَّا أدَّى إلى تمكُّنهم من انتزاع الحُكم لاحقًا.

هذا عن الأحوال الداخليَّة لِدولة المماليك في عصر أبناء الناصر مُحمَّد وأحفاده.

أمَّا في الخارج فإنَّ اضطراب أحوال البلاد وعدم وُجود رجُلٍ قويٍّ مهيب الجانب على رأس دولة المماليك، أفقد تلك الدولة مكانتها وهيبتها التي كانت قد بلغت أوجها على عهد السُلطان الناصر مُحمَّد.

ولم يلبث أن استخفَّ الأعداء بِدولة المماليك وطمع الطامعون في أراضيها، بل تجرَّأ الصليبيُّون على غزو مصر ذاتها سنة 767هـ المُوافقة لِسنة 1365م.

والمعروف أنَّ الحُروب الصليبيَّة لم تنتهِ باسترجاع المُسلمين عكَّا سنة 690هـ المُوافقة لِسنة 1291م وبِطرد آخر البقايا الصليبيَّة من الشَّام، وإنما استمرَّت تلك الحُرُوب في صُورةٍ أو أُخرى حتَّى نهاية القرن الخامس عشر للميلاد تقريبًا، واتخذت لها أكثر من ميدان في المشرق والمغرب جميعًا.

وفي ذلك الدور من أدوار الحُروب الصليبيَّة، اتخذ مُلُوك قبرص الإفرنج من آل لوزنيان جزيرتهم قاعدةً كُبرى لِتهديد السُفن والمتاجر الإسلاميَّة في شرق حوض البحر المُتوسِّط ، فضلًا عن القيام بِغاراتٍ جريئةٍ على بعض الموانئ الإسلاميَّة وموانئ دولة المماليك بِوجهٍ خاص.

وكان ملك قبرص آنذاك بُطرُس الأوَّل قد سمع بِأخبار الفوضى التي غرقت فيها مصر في عصر أحفاد الناصر مُحمَّد، وكيف كانت الموانئ والمُدن المصريَّة خالية تمامًا من وسائل الدفاع.

فقرَّر وقادته غزو الإسكندريَّة لِلقضاء على دولة المماليك التي تسبَّبت بِطرد الصليبيين من الشَّام من ناحية، ولِلاستفادة من مركز تلك المدينة الحربي وموقها التجاري من ناحيةٍ أُخرى.

وعلى الرُغم من أنَّ أخبار الحملة الصليبيَّة ووُجهتها طارت إلى مصر عن طريق التُجَّار قبل وُقُوع الهُجوم بِمُدَّةٍ طويلة إلَّا أنَّهُ لم يكن من الدولة اهتمام.

نزل الصليبيُّون على شاطئ الإسكندريَّة صباح الجُمُعة 23 مُحرَّم 767هـ المُوافق فيه 9 تشرين الأوَّل (أكتوبر) 1365م، وارتكبوا فيها مذبحةً رهيبة راح ضحيَّتها آلاف السَّكندريين من مُسلمين ومسيحيين ويهود، ونهب الصليبيُّون البُيُوت والمتاجر والكنائس والجوامع، ولم تسلم منهم حتَّى متاجر التُجَّار الأوروپيين، وهرب الكثير من الأهالي ناجين بِحياتهم.

وبعد مضيّ 4 أيَّام انسحب الصليبيُّون عائدين إلى قبرص، حاملين في سُفُنهم آلاف الأسرى والمنهوبات.

خِلال هذه الفترة من عصر السلاطين البحريَّة الصغار، برز اسم أحد المماليك البُرجيَّة أو الشراكسة – وهو الأمير برقوق بن أنس العُثماني اليلبغاوي – الذي استطاع بِفضل طُمُوحه وقُوَّته أن يصل إلى منصب أتابك العسكر سنة 780هـ المُوافقة لِسنة 1378م، وبِذلك أصبح برقوق على جانبٍ كبيرٍ من القُوَّة في عهد السُلطان علاءُ الدين عليّ الذي لم يتجاوز سنُّه ست سنوات.

ظلَّ السُلطان علاءُ الدين عليّ في الحُكم حتَّى وفاته سنة 783هـ المُوافقة لِسنة 1381م، وهو في الثانية عشرة من عُمره.

وكان في استطاعة برقوق أن يلي عرش السلطنة عقب وفاة السُلطان عليّ مُباشرةً، لكنَّهُ أدرك أنَّ الأُمُور لم يتم نضجها بعد لا سيَّما وأنَّ لهُ الكثير من المُعارضين.

لِذلك تظاهر برقوق بِالزُهد في السلطنة مُعلنًا أنَّ المصلحة تتطلَّب إبقاء وظيفة السلطنة في بيت قلاوون.

وهكذا استُدعي الأمير حاجي حفيد الناصر مُحمَّد وسنُّه وقتئذٍ إحدى عشرة سنة، وأُعلن سُلطانًا سنة 783هـ المُوافقة لِسنة 1381م.

وفي خلال عهد السُلطان الطفل الجديد، أخذ برقوق يُمكِّنُ لِنفسه، فاختصَّ زُملائه وأنصاره من أُمراء المماليك بِالوظائف الرئيسيَّة في الدولة، في الوقت الذي أخذ يعمل على اكتساب محبَّة عامَّة الناس، فخفَّف عنهم الضرائب، ولمَّا وجد أنَّ الأُمور باتت مُهيئة لِإعلان نفسه سُلطانًا، انتحل نفس العُذر الذي سبق أن تحجج به الطامعون في الحُكم من أُمراء المماليك، وهو صغر سن السُلطان القائم، فاجتمع بالأعيان الذين أعلنوا خلع السُلطان حاجي وإقامة برقوق مكانه.

وبِعزل حاجي من السلطنة انتهى بيت قلاوون، كما انتهى حُكم المماليك البحريَّة، وقامت دولة المماليك البُرجيَّة.

عصر المماليك البرجية

تختلف دولة المماليك البُرجيَّة – أو الشراكسة (الجراكسة) – عن الأولى، أو البحريَّة، في عدَّة نواحي، أوَّلها أنَّ سلاطين الدولة البُرجيَّة كانوا جميعًا شراكسة العِرق، ما عدا اثنين يرجعان إلى أصلٍ روميٍّ هُما خُشقُدم وتمربُغا.

هذا إلى أنَّ مبدأ الحُكم الوراثي الذي حاول بعض سلاطين المماليك البحريَّة تطبيقه في عنادٍ وإصرارٍ والذي نجح بِوُضوحٍ في عصر بيت قلاوون، هذا المبدأ لا يُوجد له أثر في عصر دولة المماليك الشراكسة.

والواقع أنَّ سلاطين دولة المماليك الثانية كانوا زُعماء أو أُمراء كبار أكثر منهم سلاطين.

وكان نجاح السُلطان في مُهمَّته يتوقَّف على مدى توفيقه في توجيه كبار الأُمراء وضرب طوائف المماليك ببعضها البعض.

فإذا استطاع السُلطان الاحتفاظ بِمنصبه حتَّى وفاته، فإنَّ ابنه كان يخلفه عادةً.

ولكن لِعدَّة أشهرٍ فقط حتَّى ينجلي الموقف بين كبار الأُمراء ويستطيع أحدهم أن ينفرد بِالغنيمة.

والمعروف أنَّ دولة المماليك البُرجيَّة عمَّرت أكثر من مائة وأربعة وثلاثين سنة، تعاقب على عرش السلطنة خلالها ثلاث وعُشرون سُلطانًا، ومن هؤلاء السلاطين تسعة حكموا مائة وثلاث سنوات، في حين حكم الأربعة عشر سُلطانًا الباقون تسع سنوات فقط.

أمَّا هؤلاء السلاطين التسعة الذين ارتبط بهم تاريخ دولة المماليك الشراكسة فهم: برقوق وفرج وشيخ وبرسباي وجقمق وإينال وخشقدم وقايتباي وقانصوه الغوري. وكثيرٌ من أولئك السلاطين عُرفوا بِحُبهم الأدب ومجالس العلم، كما عُرف بعضُهم بِالتقوى والورع.

ولا شكَّ في أنَّ البلاد قاست كثيرًا في عهد المماليك الشراكسة من جرَّاء المُنازعات المُستمرَّة بين طوائف المماليك، وما كان ينجم عن تلك المُنازعات من حوادث وقتال في الشوارع، ممَّا أوجد جوًا من القلق وعدم الاستقرار في القاهرة بِوجهٍ خاص.

وزاد من شدَّة البلاء أنَّ السلاطين عجزوا في ذلك العصر عن كبح جماح مماليكهم ممَّا جعلهم لا يجدون وسيلةً لِلاحتفاظ بِمراكزهم سوى ضرب طوائف بعضها ببعض، وبِذلك يخلوا الجو لِلسُلطان ومماليكه فيُعيثون في الأرض فسادًا.

على أنَّهُ يُلاحظ أنَّ سلاطين الدولة الشركسيَّة عملوا دائمًا على حصر تلك المُنازعات داخل دائرة داخليَّة بحتة، بحيث لم يُمكنوا قُوَّة خارجيَّة من التدخُّل في شؤون البلاد أو الانتقاص من سيادتها، على أنَّ ذلك لم يحل دون تطلُّع عامَّة المُسلمين – في أواخر هذا العهد – إلى العُثمانيين كمُنقذين ومُخلِّصين.

نهاية السلطنة المملوكية

كان كُل انتصار يُحققه العُثمانيُّون على الصفويين، يعني هزيمةً قاسيةً لِلمماليك، ويُؤدي إلى الانتقاص من هيبتهم بِصفتهم سلاطين المُسلمين وحُماة الخِلافة، كما أنَّ تهديد الصفويين لِكليهما لم يُخفف مُطلقًا من التناقُضات بينهما، فتصرَّفت كُل دولة بِمعزلٍ عن الأُخرى.

وفي 2 رجب 920هـ المُوافق فيه 23 آب (أغسطس) 1514م انتصر العُثمانيُّون على الصفويُّون في معركة چالديران وردُّوهم على أعقابهم إلى إيران.

فكانت تلك مُفاجأة غير مُتوقعة لِلمماليك، فلم يبتهجوا لِهذا الانتصار، وخاب أمل السُلطان قانصوه الغوري الذي كان يود أن يقوم بِدور الوسيط بين العُثمانيين والصفويين لِيُوجِّه السياسات العامَّة في المنطقة لِصالح الحُكم المملوكي.

وكان السُلطان الغوري يُدرك تمامًا أنَّ المُنتصر من الجانبين سيعمل على تصفية الموقف في المشرق العربي بِالاصطدام بِالمماليك، ومن ثُمَّ كان عليه أن يتخذ موقفًا من التطوُّرات السياسيَّة والعسكريَّة السريعة، فرأى أن يلتزم الحياد تاركًا الدولة العُثمانيَّة وحيدة في مُواجهة الصفويين دون تبصُّرٍ بنتائج ما قد يقوم به الشاه إسماعيل في حال انتصاره من أعمالٍ عُدوانيَّةٍ مُتزايدةٍ ضدَّ المماليك.

وحاول السُلطان سليم استقطاب الغوري إلى جانبه، فأرسل بعثةً عُثمانيَّةً إلى القاهرة وصلتها في شهر ربيع الآخر سنة 920هـ المُوافق فيه شهر أيَّار (مايو) سنة 1514م، حاملةً اقتراحًا بِعقد تحالف بين العُثمانيين والمماليك لِمُحاربة الصفويين، لكنَّ المماليك رفضوا الاقتراح وتمسَّكوا بِسياستهم، مع تفضيل اتخاذ موقف الانتظار.

اعتبر العُثمانيُّون سياسة المماليك هذه مظهرًا من مظاهر العداوة، وأخذوا يعتبرونهم العدو الرئيسي، وسعى السُلطان سليم لِإيجاد سببٍ لِفتح باب الحرب مع الدولة المملوكيَّة والقضاء عليها في سبيل توحيد الجبهة الإسلاميَّة السُنيَّة في مُواجهة الصفويين في إيران، ومُواجهة الخطر الپُرتُغالي المُتزايد في البحار الإسلاميَّة كذلك.

بادر السُلطان سليم إلى الاستيلاء على إمارة ذي القدر التُركمانيَّة الأناضوليَّة المشمولة بِحماية المماليك، والتي تقع على الحدود بين الدولتين المملوكيَّة، والعُثمانيَّة، كما استغلَّ تطلُّع شُعُوب المشرق العربي إلى العُثمانيين كمُنقذين من الحُكم المملوكي الذي أصبح مُتعسفًا، لِيتقرَّب من عامَّة الناس.

بِالمُقابل، أزعج ضم سليم الأوَّل إمارة ذي القدر، قانصوه الغوري، فاعتبر تصرُّفهُ هذا بِمثابة إعلانٍ لِلحرب، وقرَّر أن يستعيد هيبته في المنطقة، فنادى بالتعبئة العامَّة، لكنَّهُ قوبل بِعرقلة الناس في مصر لِتدابير التعبئة هذه، وبِميل الناس إلى العُثمانيين، حتَّى أنَّ صُنَّاع الأسلحة أقفلوا دور صناعتهم، وتعالت في الشوارع التهديدات والشتائم المُوجَّهة ضدَّ السُلطان.

وانخفضت درجة الانضباط في الجيش بِشكلٍ كبير، ورفض الجُنود المسير لِقتال العُثمانيين قبل حُصولهم على المال والمُكافآت واللُحوم، وأخذوا في التمرُّد وعاثوا فسادًا في الشوارع.

أمَّا في الشَّام فقد أخذت المناطق الشماليَّة تخرج عن طاعة المماليك وتنضم طوعًا إلى العُثمانيين، وبدأ كثيرٌ من الأمراء يتعاطفون مع العُثمانيين ويُقيمون العلاقات السريَّة معهم.

نتيجةً لِهذه العوامل أيقن السُلطان الغوري أنَّهُ غير مُستعد لِخوض غمار حربٍ كبيرة ضدَّ العُثمانيين الأقوياء، لكنَّ إصرار السُلطان سليم على الحرب جعل الغوري يُحاول التحالف مع الصفويين ضدَّ العدو المُشترك.

وما أن بلغت أخبار هذه المُحاولة مسامع السُلطان سليم حتَّى اعتبر أنَّ الغوري طعن الدولة العُثمانيَّة وأهل السُنَّة والجماعة من الخلف، فأعلنهُ بِالحرب مُتهمًا إيَّاه بِخيانة العالم الإسلامي.

خرج السُلطان قانصوه الغوري من مصر إلى الشَّام لِلقاء العُثمانيين والحيلولة دون سيطرتهم على البلاد، فالتقى الجمعان عند مرج دابق شماليّ حلب، حيثُ دارت بينهما معركةٌ هائلة في 25 رجب 922هـ المُوافق فيه 8 آب (أغسطس) 1516م، أفضت إلى هزيمة المماليك، وانتصار العُثمانيين، ومقتل السُلطان الغوري نفسه.

وعمَّت الفوضى في صُفوف الجيش المملوكي، فالتحق قسمٌ من المماليك بِالعُثمانيين في حين لاذ الباقون بِالفرار إلى مصر.

استثمر السُلطان سليم انتصاره هذا وضمَّ عينتاب وحلب وحماة و حمص ودمشق وبيت المقدس وغيرها، وكان السُكَّان يحتفلون بِمقدمه بِصُورةٍ لم يألفها أيُّ سُلطانٍ عُثمانيٍّ من قبل.

انتخب المماليك – بعد مقتل قانصوه الغوري – طومان باي خلفًا له، فعرض عليه السُلطان سليم مُجددًا أن يعترف المماليك بِسيادة العُثمانيين، ودفع خراج سنوي لهم، فأبى طومان باي، فبرز إليه سليم، فانهزم طومان باي على حُدُود الشَّام الجنوبيَّة وانسحب بسُرعةٍ إلى مصر، فتتبعه السُلطان سليم حتَّى مدينة القاهرة.

اتخذ المماليك رباطهم الأخير في قرية الريدانيَّة، وهي قريةٌ صغيرة تقع على الطريق المُؤدية إلى القاهرة، وفي 29 ذي الحجة 922هـ المُوافق فيه 22 كانون الثاني (يناير) 1517م، دارت بين الجيشان معركة هائلة انتصر فيها العُثمانيون.

بِرُغم الدفاع المُستميت لِلمماليك، ووقع طومان باي أسيرًا في يد العُثمانيين بسبب خيانة أحد أتباعه له، فعامله السُلطان سليم بدايةً مُعاملةً كريمة، لكنَّهُ أذعن في النهاية لِإلحاح بعض القادة والأُمراء، فأمر بِإعدامه، فشُنق على باب زويلة وبِمقتل طومان باي سقطت الدولة المملوكيَّة، وأصبحت الديار المصريَّة والشَّاميَّة جُزءًا من الدولة العُثمانيَّة.

وفيما كان السُلطان سليم في القاهرة، قدَّم إليه شريف مكَّة مفاتيح الحرمين الشريفين كرمزٍ لِدُخول الحجاز تحت جناح الدولة العُثمانيَّة، وبعد عودته إلى عاصمة مُلكه إسلامبول، بُويع بِالخلافة الإسلاميَّة بعد أن تنازل له عنها آخر خُلفاء بني العبَّاس مُحمَّد بن يعقوب المُتوكِّل على الله.


المصدر

جميع حقوق الملكية الفكرية والنشر محفوظة لموقع غدق www.ghadk.com

“يمنع منعاً باتاً نقل أو نسخ هذا المحتوى تحت طائلة المسائلة القانونية والفكرية”

يمكنكم دعم الموقع عن طريق الاشتراك في صفحة الفيس بوك Facebook وحساب الانستغرام  Instagram وحساب تويتر Twitter

للتواصل والاستفسار والدعم التواصل على البريد التالي : ghadak.site@gmail.com

غدق

تقييم المستخدمون: 5 ( 5 أصوات)
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الرحاء ايقاف مانع الاعلانات